كلمة رئيس الحكومة خلال الدورة الثالثة والسبعون للجمعية العامة للأمم المتحدة
بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين،
السيدة الرئيسة،
معالي الأمين العام،
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو،
أصحاب المعالي والسعادة،
حضرات السيدات والسادة،
يشرفني أن ألقي هذه الكلمة باسم الوفد المغربي لعرض وجهة نظر بلدي المستقاة من تعليمات صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله حول بعض القضايا الهامة على جدول أعمال الدورة الثالثة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة
ويطيب لي بداية أن أهنئكم على انتخابكم رئيسة لهده الدورة، متمنيا لكم كل التوفيق والنجاح في هذه المهمة النبيلة. كما أُشيد بالعمل المتميز الذي قام به سلفكم، السيد ميروسلاف لايتشاك، خلال ترؤسه للدورة السابقة.
وأود كذلك التنويه بالعمل الدؤوب الذي يقوم به معالي الأمين العام للأمم المتحدة، السيد أنطونيو غوتيريس٬ للمضي قدما في مسار إصلاح منظمتنا وتعزيز دورها وتحقيق الأهداف السامية التي أنشئت من أجلها. كما أجدد دعم المغرب الكامل للمبادرات التي أطلقها، خاصة في مجال حفظ وبناء السلام، وتحديث آليات عمل المنظمة وتحقيق التنمية المستدامة.
السيدة الرئيسة،
يعيش العالم على وقع تحديات متنوعة وتحولات عميقة وتقلبات متلاحقة، تضع على المحك قدرتنا على إرساء مقاربات متجددة ورؤى خلاقة كفيلة بالنهوض بالعمل متعدد الأطراف، الذي يعاني من أزمة حقيقية على مستوى تحديد مفاهيم توافقية للتعامل مع القضايا الشاملة، والنهوض بفاعلية المؤسسات الدولية، ودعم قدرتها على التأقلم المستمر مع المتغيرات.
إن تأمل هذا الواقع لا يصب في خانة الترف الفكري؛ بل يشكل دعوة صريحة للتفكير الواقعي والموضوعي في حصيلة عمل الأمم المتحدة، بغرض الارتقاء بقدرتها على تحقيق الأهداف التي أنشئت من أجلها.
وفي هذا الصدد، يعتبر المغرب وفق رؤية صاحب الجلالة أن تطوير العمل متعدد الأطراف يتطلب إيلاء اهتمام خاص لثلاثية الأمن والتنمية وحقوق الإنسان. فإذا كانت 2018 سنة تفعيل أجندة 2030 – التي تم اعتمادها في 2017 – فإنها أيضا سنة تخليد محطتين تاريخيتين شكلتا طفرة نوعية في مسيرة عملنا الجماعي ومُنطلقا لترسيخ هوية منظمتنا وتكريس القيم الإنسانية الكونية المشتركة وتثبيت السلم والأمن الدوليين:
المحطة الأولى، هي إرسال أول بعثة أممية لحفظ السلام، التي نخلد هذه السنة ذكراها السبعين، التي تشكل مناسبة لاستحضار محورية المنظومة الأممية لحفظ السلام، القائمة علـى أسس الحـل السلمـي للنـزاعـات الدولية والإقليمية، واحتـرام سيادة الدول ووحدتها الترابية، واستقـلالهـا السيـاسـي.
ومن هذا المنبر، أكد صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، خلال الدورة 67 للجمعية العامة (28 شتنبر 2012)، أن " تحقيق السلم والأمن الدوليين٬ يبقى جوهر المهمة التاريخية التي أنيطت بالأمم المتحدة. وما انتشار عشرات الآلاف من القبعات الزرق في كل جهات العالم لحماية المدنيين٬ وتوفير الأرضية الملائمة للحوار السياسي بين الفرقاء٬ إلا دليل قاطع على الدور الحيوي الذي تلعبه منظمتنا في هذا المجال" (انتهى كلام صاحب الجلالة).
وفي هذا السياق، أكد صاحب الجلالة في رسالته الموجهة الى السيد الأمين العام للأمم المتحدة في أوائل هذا الشهرتُثمين المملكة المغربية لمبادرته بتنظيم اجتماع رفيع المستوى خلال هذه الدورة، حول "تطوير عمل آلية حفظ السلام"Action for peacebuilding" ودعم المغرب للبيان الصادر عن هذا الاجتماع الهام.
أما المحطة التاريخية الثانية، فهي اعتماد الجمعية العامة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان (10 دجنبر 1948)، والذي نخلد هذه السنة ذكراه السبعين أيضا، بما تمثله من مناسبة للتنويه بهذه اللبنة الأساس في المنظومة الحقوقية الدولية، التي أسست لقيَم كونية مشتركة في مجال حقوق الإنسان، وكانت خير مُحفز لاعتماد مواثيق دولية موضوعاتية تُعنى بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وغيرها من المواثيق والصكوك ذات الصلة. كما أسهمت، على مستوى القواعد والآليات، في تعميق الوعي بأهمية تبني الجيل الجديد من حقوق الإنسان، المبني على التضامن والمسؤولية المشتركة، خاصة في مجال البيئة والتنمية المستدامة.
وهنا، يؤكد المغرب التزامه بحقوق الانسان كما هو متعارف عليها دوليا، مجددا الدعوة على مواصلة العمل لجعل المبادئ النبيلة لحقوق الإنسان عنصر تقارب بين الأمم، على اختلافها وتنوع وتعدد مكوناتها، وبلورة تصور مسؤول للقيم الحقة لحقوق الإنسان، بعيدا عن كل توظيف سياسي مغرض لغاياتها النبيلة.
السيدة الرئيسة،
لقد وضع صاحب الجلالة ضمن أولويات السياسة الخارجية للمملكة المغربية، الانخراط في نظام متعدد الأطراف قوامه التوازن والواقعية والنجاعة والانفتاح والطموح.
ونحن اليوم بحاجة، أكثر من أي وقت مضى، للعمل سويا لبلورة مقاربات توافقية، من منطلق منظور إنساني وتضامني، لرفع التحديات المشتركة الملحة، خاصة في مجالات التغيرات المناخية ومكافحة الإرهاب والهجرة.
هذا هو السبيل الذي اتبعه صاحب الجلالة فيما يخص التعبئة العالمية للحد من آثار التغيرات المناخية، حيث جعل من قمة مراكش Cop.22)) موعدا مع التاريخ، هاجسها تفعيل الالتزامات والتعهدات الصادرة عن قمة باريس حول المناخ.
وبنفس القناعة، انخرط المغرب بتوجيهات من صاحب الجلالة بكل عزم في التعاون الدولي في مواجهة الّإرهاب والمخاطر الأمنية العابرة للحدود. حيث ساهمت، من منطلق خبرتها المشهود لها، في وضع مقاربات دولية وإقليمية ووطنية تتلاءم ومتغيرات هذه الظاهرة. كما واصلت المملكة المغربية مساهمتها في حشد الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب، بما في ذلك من خلال رئاستها المشتركة مع هولندا للمنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب.
أما فيما يخص موضوع الهجرة، فقد قدم صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، بصفته "رائدا" في مجال سياسات الهجرة داخل الاتحاد الإفريقي، "الأجندة الإفريقية للهجرة"، التي اعتمدتها القمة الإفريقية الواحدة والثلاثون، بأديس أبابا في يناير 2018. وعلى المستوى الدولي، فإن المغرب يرأس، بشراكة مع ألمانيا، المنتدى العالمي للهجرة. وقد ساهمت مخرجات هذين المسارين – الإفريقي والدولي – في إغناء محتوى الميثاق العالمي للهجرة.
وقد شهدت الشهور الأخيرة مفاوضات مكنت، ولأول مرة في التاريخ، من صياغة توافق دولي حول "ميثاق عالمي للهجرة الآمنة والمنظمة والمنتظمة"، سيتم اعتماده خلال الاجتماع رفيع المستوى المرتقب بمراكش في 10 و11 دجنبر 2018، الذي سيشكل لحظة تحول تاريخية في التعاطي مع قضية الهجرة، حيث سيرسي أسس نظام عالمي جديد يقوم على الحوار والتشاور والتعاون، ويتعامل إيجابيا مع الهجرة كدينامية بشرية أساسية في تطوير المجتمعات، والتقريب بين الحضارات وتحقيق التنمية.
السيدة الرئيسة،
انطلاقا من انتمائه الإفريقي المتجذر والروابط التاريخية والإنسانية العريقة التي تجمعه مع الدول الإفريقية، جعل المغرب علاقاته مع القارة الإفريقية من أولى أولويات سياسته الخارجية، في إطار رؤية استراتيجية مندمجة واستباقية، يحمل لواءها صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله.
ويحرص جلالته في هذا الإطار على اقتراح تصور إفريقي لكل إشكالية تطرح على مستوى الأجندة الدولية من أجل المساهمة في دعم الجهود الإفريقية والدولية لكسب رهانات السلم والتنمية، والحكامة الجيدة.
وبصفته عضوا في مجلس السلم والأمن الإفريقي، فان المغرب عازم على الاضطلاع بمسؤوليته في حشد الجهود من أجل الحفاظ على الأمن والسلم وتعزيز الاستقرار بالقارة الإفريقية، بما يدعم جهود الأمم المتحدة في هدا الإطار.
السيدة الرئيسة،
إن المخاطر التي تحذق بمنطقة الشرق الأوسط تتطلب إيجاد حل عادل ونهائي للقضية الفلسطينية باعتبارها جوهر الصراع في المنطقة وأساس أمنها واستقرارها. ومن هذا المنطلق، تدعو المملكة المغربية إلى تركيز الجهود على إعادة إطلاق العملية السياسية، استنادا إلى المرجعيات الدولية والثنائية، بما يمكن الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة، وعلى رأسها حقه في إقامة دولته المستقلة، على كامل أراضيه الوطنية، وعاصمتها القدس الشريف.
وإدراكا منها بأهمية القدس لدى أتباع الديانات السماوية الثلاث والبشرية جمعاء، فإن المملكة المغربية، التي يرأس عاهلها صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله لجنة القدس، ترفض أي مساس بالوضع التاريخي والقانوني والسياسي للمدينة، وتدعو إلى جهد عالمي يحفظ وضعها، ويحميه من كل الإجراءات التي تستهدفه، والتي من شأنها أن تنقل الصراع حولها من صراع سياسي إلى صراع ديني لن يكون بمقدور المنطقة تحمله.
إن مصدر القلق الثاني في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هو التدخل السافر لقوى إقليمية في الشؤون الداخلية لبعض الدول العربية، بما فيها المملكة المغربية، بما قد يهدد أمنها واستقرارها، بل وربما يمس بسيادتها ووحدتها الترابية والوطنية. ولا يسع المملكة المغربية، بهذه المناسبة، إلا أن تجدد رفضها وإدانتها لمثل هذا السلوك العدائي الهدام، وأن تطالب هذه القوى، بالإقلاع عن هذا النهج الذي يتعارض مع أحكام القانون الدولي والعلاقات الدولية ومبادئ حسن الجوار، وتدعوها إلى تبني خيارات متبصرة، والانخراط بصدق وشجاعة في بناء منطقة آمنة ومستقرة وجذابة.
السيدة الرئيسة،
يظل النزاع الإقليمي المفتعل حول الصحراء المغربية، سببا رئيسا في إذكاء التوتر بالمنطقة، وعائقا أمام العمل المُشترك والاندماج المغاربي. وبالتالي، بات من اللازم العمل على إيجاد حل سياسي مستدام من خلال جهود يتعين على الجزائر الانخراط الفعلي والمباشر فيها من منطلق مسؤوليتها التاريخية والسياسية في افتعاله وتأجيجه واستدامته.
إن المملكة المغربية تؤكد التزامها التام بالمرجعيات التي اعتمدها مجلس الأمن الدولي، لمعالجة هذا النزاع الإقليمي المفتعل، باعتباره الهيأة الدولية الوحيدة المكلفة برعاية مسار التسوية؛ وفي مقدمتها اعتماد "روح الواقعية والتوافق" والعمل على "التوصل إلى حل سياسي ، واقعي وعملي ودائم" كما ورد في قرارات مجلس الأمن، وآخرها القرار رقم 2414.
وفي هذا الصدد، يواصل المغرب، بكل ثقة والتزام، انخراطه في الدينامية التي أطلقها الأمين العام للأمم المتحدة، بالتعاون مع مبعوثه الشخصي، وذلك على الأسس التي حددها صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، في خطاب الذكرى 65 لثورة الملك والشعب في 20 غشت الماضي مواصلة المغرب "بكل ثقة والتزام، انخراطه في الدينامية التي أطلقها الأمين العام للأمم المتحدة، بالتعاون مع مبعوثه الشخصي، وذلك على أساس نفس المرجعيات التي حددناها في خطاب المسيرة الخضراء الأخير. وإننا نسجل، بارتياح، الانسجام المتزايد بين هذه المبادئ والمواقف الدولية.".
وبالموازاة مع ذلك، يواصل المغرب جهوده من أجل تفعيل النموذج التنموي بأقاليمه الجنوبية، وتطبيق نظام الجهوية المتقدمة بشكل يكفل لسكان الصحراء المغربية التدبير الذاتي لشؤونهم المحلية في مناخ من الديمقراطية والاستقرار والتنمية المندمجة.
ونستحضر، في المقابل، بأسى بالغ وقلق عميق، الوضعية المأساوية لإخواننا المحتجزين في مخيمات تندوف، لنجدد مطالبتنا، الثابتة وغير القابلة للمساومة، للمجتمع الدولي، من أجل حمل الجزائر على تحمل كامل مسؤولياتها السياسية والقانونية والإنسانية، بوصفها البلد المضيف، والسماح للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين بالنهوض بالولاية المنوطة بها في تسجيل وإحصاء هذه الساكنة تنفيذا لقرارات مجلس الأمن الدولي، واستجابة لنداءات الأمين العام للأمم المتحدة، والهيئات الإنسانية المختصة.
السيدة الرئيسة
إن قناعتنا تامة، اليوم كما الأمس، أن التقلبات والتحولات الكبرى التي يشهدها العالم، من شأنها التأكيد بقوة وإلحاح، لأنه لا محيد عن تضافر جهود كل أعضاء المجتمع الدولي، أيا كانوا ومهما كانت مصالحهم. فالعمل متعدد الأطراف هو في صلبه ضد الانزواء والميل إلى إدامة الوضع القائم، فهو عنوان للتقدم والتفاهم والتأقلم. وسيظل النظام متعدد الأطراف –على الرغم مما يتعرض له من جحود وانتقاد-ضروريا ومطلوبا، لمعالجة التحديات والقضايا المطروحة على المجموعة الدولية.
ويتبقى المملكة المغربية، على الدوام، عضوا نشيطا في منظمة الأمم المتحدة، وفاعلا مسؤولا في المنتظم الدولي، وستظل تؤمن بمبادئ المنظمة وتثق في جدوى العمل متعدد الأطراف.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.