كلمة رئيس الحكومة في المؤتمر الإقليمي رفيع المستوى حول "التنمية الشاملة"
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه
سعيد بافتتاح هذا المؤتمر الإقليمي رفيع المستوى حول موضوع ذات أهمية ألا وهو موضوع الازدهار والتنمية للجميع وتعزيز الوظائف والتنمية الشاملة والمدمجة والمندمجة في الدول العربية.
هذا المؤتمر يجمع نحبة كبيرة من فاعلين ومن المسؤولين ومن الذين يشاركونهم في المجتمع المدني وفي الجامعات والخبراء وغيرهم.
فمن بين حسنات هذا المؤتمر أنه يجمع حول طاولة واحدة هذا الطيف الواسع لتكون هناك عملية تفكير والتشاور لاستدراك ما يجب استدراكه وللتفكير في المستقبل والتحديات التي تطرحها التنمية في بلداننا.
وكما تعلمون، تميزت السنوات الأخيرة بتحولات متسارعة وعميقة أحيانا في الاقتصاد العالمي، وعلى المستوى الإقليمي أيضا، أدت بالجميع إلى البحث عن ورافد جديدة للتنمية وروافد بديلة للتنافسية في عالم التنافس فيه شرس على جميع المستويات، وأيضا ازدادت فيه المطالب والانتظارات على مستوى الثروات المادية والمالية، وعلى مستوى الكفاءات البشرية وعلى مستوى التنمية والخدمات الاجتماعية.
هذه التحولات، التي تكون أحيانا عميقة، تحتاج إلى مقاربات جديدة ومتجددة وإلى إبداع وإلى أن نجد الحلول لهذه التحديات المؤثرة على بنية المجتمعات وعلى مستقبلها وأحيانا على استقرار الدول وأمنها وتماسك مجتمعاتها.
وبلداننا العربية تشهد التحديات نفسها وربما أحيانا بشكل أعمق، ويزداد إلى هذه التحديات أخرى خاصة بدول الجنوب والمرتبطة مثلا بالنمو الديموغرافي المتسارع والضاغط والتغيير في بنية الساكنة وبروز انتظارات وحاجيات جديدة ومتزايدة وتحول حتى في الأفكار وفي التمثلات الاجتماعية، فما كان ليس ضروريا أمس، أصبح اليوم ضروريا، وما كنا نوفره أمس بقدر متوسط ويكون الناس مرتاحين، اليوم لم يعد الناس ينظرون إلى تلك الحاجيات كأنها كافية، وبالتالي بثنا أمام ضغط اجتماعي وانتظارات اجتماعية نتيجة تغيرات في الثقافة والتمثلات الاجتماعية.
هناك تحديات، وكثير منها مشترك بين البلدان العربية، وهو ما يستدعي أهمية مثل هذه المؤتمرات التي نحاول فيها مجتمعين ان نشخص واقعنا، ونحدد هذه التحديات ونفكر في حلول ليست فقط البعيدة والمتوسطة المدى، بل أيضا الآنية.
إن وضع الاستراتيجيات بعيدة المدى شيء مهم وضروري، لكن في كثير من الأحيان، لا تفهم هذه الاستراتيجيات من قبل الساكنة التي لديها انتظارات آنية وتريد الاستجابة لها فورا ودون انتظار. من هنا، لابد من أن نشفع استراتيجيات بعيدة المدى ببرامج استعجالية للتدخل وللاستجابة للحد الأدنى من هذه الانتظارات.
حضرات السيدات والسادة
إن التجربة المغربية حاولت منذ عقود أن تأخذ بعين الاعتبار التحديات التي أشرت إليها قبل قليل، إذ شرعت المملكة المغربية في مباشرة إصلاحات متعددة وهيكلية لمواجهة هذه التحديات، والعمل على إرساء نمو اقتصادي قوي راسخ البنيان والمداخل التي اختارها المغرب تتجلى في العمل على تحقيق انفتاح سياسي واقتصادي يمكن من الاستفادة من واقع العولمة الموجود، والإفادة فيه والتفاعل معه بطريقة إيجابية.
وبعد دستور 2011، الذي أقره الشعب المغربي في استفتاء، بدأنا مسارا جديدا في مسيرة الاصلاح المؤسساتي والإصلاح الديمقراطي، وتطوير نظام الحكامة وإعطاء دور أكبر لبناء مؤسسات قوية في مجال حقوق الانسان وفي التنافسية ومحاربة الاختلالات، خصوصا الفساد الإداري والمالي وأيضا، بدأ المغرب، منذ ذلك الحين، في سياسة تشجيع المبادرة الخاصة في تكامل مع استثمار عمومي متصاعد وفي تكامل مع العمل على تأمين الخدمات الاجتماعية الأساسية.
أيها السيدات والسادة
إضافة إلى ترسيخ البناء الديمقراطي، وتشجيع الاستثمار بالقطاع الخاص، عملت بلادنا على تحسين مناخ الأعمال وإعطاء أهمية كبيرة لهذا المجال، لأنه دعم لتنافسية الاقتصاد المغربي ولتنافسية المقاولة المغربية، واتخاذ عدد من الإجراءات التي تدعم هذه التنافسية، ونحن نشعر على أنه في العالم المعاصر، تتنافس الاقتصادات باستمرار، وهو تنافس شرس والتوقف يعني التراجع، لذا لا يمكن التوقف في مجال الإصلاحات، وإما أن نستمر فيها، وإما أن نتراجع لأن التنافس عالمي، ومن هنا استطاع المغرب أن يحسن موقعه في مؤشر مناخ الأعمال doing business لينتقل من المرتبة 128 سنة 2010 إلى المرتبة 69 سنة 2017، وهذه قفزة مهمة ناتجة عن الإصرار على القيام بإصلاحات هيكلية عميقة، ولقد وضعنا اليوم كهدف الانتقال إلى ال50 الأوائل le top 50 ، سنة 2021 إن شاء الله عن طريق الاستمرار في الإصلاحات الضرورية لتقوية تنافسية الاقتصاد المغربي، ولدينا برنامج دقيق ولجنة وطنية لتحسين مناخ الاعمال، وهي لجنة ليست إدارية أو حكومية، إنما تضم الوزارات والادارات المعنية وتضم ممثلي المؤسسات الدستورية ورجال الأعمال والخبراء وممثلي المجتمع المدني، وأردنا جعل هذه اللجنة تشاركية تمثل الوطن ولا تمثل الحكومة أو الإدارة فقط.
ولمحاولة إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني، قررنا إعطاء دور أكبر لمجال الصناعة الذي يمثل حاليا 14 في المائة في الناتج الداخلي الخام، وهناك خطط واستراتيجيات في هذا المجال تسير بخطى سريعة وبإشراف مباشر من جلالة الملك حفظه الله الذي أشرف أمس على تدشين عدد من البرامج والمشاريع الصناعية الكبرى في منطقة اكادير، لأن هناك اليوم مخطط وطني للتسريع الصناعي ومخططات جهوية للتسريع الصناعي لتحقيق حد معقول من مشاركة جميع الجهات في التنمية الوطنية والاستفادة من ثمار التنمية الوطنية لأن العدالة بين الجهات وبين المناطق جزء أساسي من أي استراتيجية لتنمية شاملة مدمجة مندمجة تستفيد منها جميع الساكنة.
والهدف أن نعزز دور الصناعة ومكانتها في الناتج الداخلي الخام للانتقال من 14 في المائة حاليا إلى 23 في المائة سنة 2021، ونتمنى أن نصل إلى هذا الهدف لأنه سيمكن الاقتصاد الوطني من أن يكون ثابتا وغير مرتبط بتقلبات المناخ، على الرغم من أن الفلاحة ذات أهمية في الاقتصاد الوطني، وستبقى أهميتها باستمرار.
أيها الحضور الكريم
هناك عدد من الإصلاحات الهيكلية التي باشرها المغرب طيلة السنوات الأخيرة، والتي أدت إلى تحسين جميع المؤشرات الماكرو اقتصادية، واليوم، والحمد لله، جميع هذه المؤشرات تتوفر على مؤشر أخضر، وسنعمل على الحفاظ على هذا التوازن والاستمرار في الإصلاحات الهيكلية، ونحن واعون بأن الإصلاحات الكبرى للاقتصاد يجب أن لا تتم على حساب الخدمات الاجتماعية أو على جودة هذه الخدمات وعلى جودة إيصال ثمار هذا النمو إلى جميع السكان وتحقيق حد معقول من العدالة بين الفئات المجتمعية، وهو التحدي الذي يواجهه العالم.
اليوم، هناك إشكال التشغيل وولوج عدد متزايد من الشباب إلى سوق الشغل، ولدينا وعي بأهمية التعليم وبكون تعليمنا يحتاج إلى تحسين الجودة وأنه لا يساير بالضرورة حاجيات العالم المعاصر المتقلب، ولا يعطي بالضرورة ما نحتاجه من الابتكار ومن ولوج العصر.
نحن واعون أيضا بأهمية الخدمات الصحية التي تحتاج إلى تجويد، وكيف يمكن أن نوازن بين الاثنين وكيف يمكن أن يكون لدينا اقتصاد قوي وإصلاحات اقتصادية مستمرة هيكلية وفي الوقت نفسه الوفاء للحاجيات الاجتماعية لأوسع السكان، هذا هو السؤال الذي حير الخبراء والسياسيين، ولا شك أن هذه الورش المنظم اليوم سيقدم أجوبة جديدة ومتجددة على اعتبار أنه لا توجد أجوبة نهائية، وانا سعيد بهذه الورشة لأنها ستناقش هذه الإشكالية وغيرها من الإشكاليات المرتبطة بها لمحاولة إعطاء أجوبة لهذا السؤال المحير والدقيق الذي بدون شك تطرحه جميع الدول العربية الحاضرة هنا وتعتبره تحديا لها.
نحن سعدون بهذا المؤتمر لأنه سيعطينا أجوبة متعددة وسيمنح للجميع فرصة للتفكير وللتشاور ولتبادل الخبرات في مجالات متعددة ، وهذا أمر مهم.
وأنا مرة أخرى سعيد بهذا المؤتمر الإقليمي بما سيتيحه من تفكير جماعي مشترك ومن بناء وإعداد أجوبة نستفيد منها لمواجهة هذه التحديات، فالهدف أن نكون في مستوى مطالب السكان والمواطنات والمواطنين وبالخصوص في مستوى متطلبات شبابنا والاستجابة لحاجياتهم.
وفي الختام، أريد أن أوجه كلمة إلى المؤسسات الإقليمية والدولية الحاضرة معنا، بالخصوص صندوق النقد العربي الذي نسعد بمستوى الشراكة والتعاون معه، وأيضا الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وصندوق النقد الدولي وغيرها من المنظمات والمؤسسات الإقليمية والدولية التي نعتز بالتعاون معها، فإننا ندعوها إلى الانخراط الفعلي لدعم أوراش التنمية الشاملةوالعدالة الاجتماعية من خلال برامج عملية وتبادل التجارب، وننتظر من المشاركين في المؤتمر تعميق التفكير من أجل تبادل التجارب وتقييمها وبلورة اقتراحات عملية ومبدعة. فهذه المؤسسات والمنظمات تقوم بأدوار إقليمية ودولية مهمة باستقلالية عن جميع الدول.
ولما اتخذ المغرب قرار للانتقال إلى نظام صرف مرن للدرهم المغربي، قلت إن المغرب لم يفعل ذلك بإملاءات أي طرف، وإنما بقرار وطني شاركت فيه المؤسسات الوطنية المتدخلة في هذا الملف بعد تفكير دام أكثر من عشر سنوات، وبعد تشاور وبعد اتخاذ الإجراءات الضرورية لإنجاح هذا الانتقال وبطريقة إرادية وبقرار إرادي، وبطبيعة الحال، نستفيد من العالم وليس لدينا أي عقدة من أن نستفيد من أي تجربة التي حيثما كانت ناجحة، مستعدون لدراستها والاستفادة منها، وربما تطبيقها، إذا اقتنعنا بذلك أما إذا لم نقتنع، فلا أحد يمكنه أن يملي علينا أي قرار.
مرة أخرى، أجدد الترحيب بالجميع في بلدهم المغرب وبالخصوص في مدينة مراكش وأعلن عن ثقتي في أنه سيكون هناك حوار غني ومتنوع وستكون مخرجات هذا المؤتمر ونتائجه مفيدة للجميع.
وشكرا جزيلا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.